الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} يقول الحق جلّ جلاله: {ويطوفُ عليهم} أي: بالكأس أو: في شأن الخدمة كلها {غِلْمانٌ لهم} أي: مماليك مخصصون بهم، قيل: أولاد الكفار الذين ماتوا صِغاراً، وقيل: تُوجدهم القدرةُ من الغيب، وفي الحديث: «إن أدنى أهل الجنة منزلة مَن يُنادِي الخادِمَ مِن خدامه، فيجيبه ألفٌ، كلهم يُناديه: لبيك لبيك» قلت: هذا في مقام أهل اليمين، وأما المقربون فإذا اهتمُّوا بشيء حضر، بغلامٍ أو بغير غلام، من غير احتياج إلى نداء، وقال ابن عمر رضي الله عنه: (ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه). {كأنهم} من بياضهم وصفائهم {لؤلؤٌ مكنون} مصوف في الصدف؛ لأنه حينئذ يكون أصفى وأبهى، أو مخزون؛ لأنه لا يخزن إلا الثِمن الغالي القيمة. قيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم». {وأقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون} يسأل بعضُهم بعضاً عن أحواله وأعماله، وما استحق به نيل ما عند الله، فكل بعض سائر ومسؤول. {قالوا} أي: المسؤولون في جوابهم، وهم كل واحد منهم في الحقيقة: {قالوا} أي: المسؤولون في جوابهم، وهم كل واحد منهم في الحقيقة: {إِنَّا كنا قبلُ في أهلنا} أي: في الدنيا {مُشفقين} أرِقَّاء القلوب من خشية الله، أو: خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان، أو: من ردّ الحسنات وأخذ بالسيئات، أو: واجلين من العاقبة، {فمنَّ اللّهُ علينا} بالمغفرة والرحمة {ووقانا عذابَ السَّموم} وهي الريح الحارة، التي تدخل المسامّ، فسمّيت بها نار جهنم؛ لأنها بهذه الصفة. {إِنَّا كنا قَبلُ} أي: من قبل لقاء الله والمصير إليه- يعنون: في الدنيا: {نَدْعُوه} نعبده ولا نعبد غيره، أو نسأله الوقاية، {إِنه هو البَرُّ} المحسن {الرحيمُ} الكثير الرحمة، الذي إذا عُبد أثاب، وإذا سُئل أجاب، وقرأ نافع والكسائي بالفتح، أي: لأنه، أو بأنه. الإشارة: ويطوف على قلوبهم علومٌ وهبية، وحِكَمٌ غيبية، تزهو على اليواقيت المكنونة. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: كيف سلكوا طريق الوصول، وكيف كانت مجاهدة كل واحد ومسيره إلى الله، إما تحدُّثاً بالنعم، أو: للاقتداء بهم، وفي الحِكَم: «عبارتهم إما لفيضان وَجدٍ أو: لهداية مريد». إنَّا كنا قبلُ الوصول في أهلنا، أي: في عالم الإنسانية مشفقين من الانقطاع والرجوع، خائفين من سَموم صفات البهيمية والشيطانية، والشهوات الدنيوية، فإنها تهب بسموم قهر الحق، قهر بها جُلّ عباده فانقطعوا عنه، فمنَّ الله علينا، ووصلنا بما منه إلينا، لا بما منا إليه، ووقانا عذاب السموم، وهو الحرص والجزع، والانقطاع عن الحبيب، ولولا فضله ما تخلّصنا منه، إنّا كنا من قبل الوصول ندعوه أن يأخذ بأيدينا، ويجذبنا إلى حضرته، ويرحمنا بالوصول، ويبرّ بنا، إنه هو البر بمزيده، الرحيم بمَن يُنيب إليه.
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)} يقول الحق جلّ جلاله: {فذكِّرْ} أي: فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، {فما أنت بنعمتِ ربك} أي: بحمده وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل {بكاهنٍ ولا مجنونٍ} كما زعموا، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون، {أم يقولون شاعرٌ نتربصُ به رَيْبَ المَنونِ} أي: حوادث الدهر، أي: ننتظر به نوائب الزمان حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله، زهير والنابغة. و«أم» في هذه الآي منقطعة بمعنى «بل». {قل تربصوا فإِني معكم من المتربصين} أتربّص هلاككم، كما تتربصون هلاكي. وفيه عِدة كريمة بإهلاكهم، وقد جرب أنّ مَن تربص موت أحد لِينال رئاسته، أو ما عنده، لا يموت إلا قبله. {أم تأمرهم أحلامُهم} أي: عقولهم {بهذا} التناقض في المقالات، فإنَّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور، والمجنون مُغطى عقله، مختل فكره، والشاعر يقول ما لا يفعل، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد؟ وكانت قريش يُدْعَون أهل الأحلام والنُهي، فكذبهم ما صدر منهم من هذه المقالات المضطربة، {أم هم قوم طاغُون} يجُازون الحدودَ في المكابرة والعناد، ولا يحومون حول الرشد والسداد. وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز. {أم يقولون تَقوَّله} اختلقته من تلقاء نفسه، {بل لا يؤمنون} ردّ عليهم، أي: ليس الأمر كما زعموا، بل لكفرهم وعنادهم يقذفون بهذه الأباطيل، التي لا يخفى بطلانها على أحد، فكيف يقدر البشر أن يأتي بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم، {فليأتوا بحديثٍ مِثْلِه} أي: مثل القرآن في البلاغة والإعجاز {إِن كانوا صادقين} في أن محمداً تقوّله من تلقاء نفسه؛ لأنه بلغاتهم، وهم فصحاء، مشاركون له صلى الله عليه وسلم في العربية والبلاغة، مع ما لهم من طُول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المقاولة للنظم والثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام، ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به مع دواعي الأمر بذلك من تعجيزهم وإفحامهم وطلب معارضتهم. {أم خُلقوا من غير شيءٍ} أي: أم أُحدثوا وقُدّروا هذا التقدير البديع، الذي عليه فطرتهم، من غير محدث ومقدّر. أو: أم خُلقوا من غير شيء من الحكمة، بأن خُلقوا عبثاً، فلا يتوجه عليهم حساب ولا عقاب؟ {أم هم الخالقون} المُوجدون لأنفسهم؟ فيلزم عليه الدور، وهو تقدُّم الشيء على نفسه وتأخُّره عنها، {أم خَلقوا السماوات والأرض} فلا يعبدون خالقِهما {بل لا يُوقنون} لا يتدبرون في الآيات، فيعلمون خالقهم، وخالق السموات والأرض، فيُفردونه بالعبادة. {أم عندهم خزائنُ ربك} من النبوة والرزق وغيرهما، فيخصُّوا بما شاؤوا مَن شاؤوا، {أم هم المصَيْطِرون} أي: الأرباب الغالبون، المُسلَّطون على الأمور يدبرونها كيف شاؤوا، حتى يُدبروا أمر الربوبية، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم. وقرأ المكي والشامي بالسين على الأصل. {أم لهم سُلَّمٌ} منصوب يرتقون به إلى السماء، {يستمعون فيه} كلامَ الملائكة، وما يُوحى إليهم من علم الغيب، حتى يعلموا أن ما هم عليه حق، وما عليه غيرهم باطل، أو ما هو كائن من الأمور التي يتفوّهون بها رجماً بالغيب، ويعلّقون بها أطماعهم الفارغة من هلاكه صلى الله عليه وسلم قبلهم، وانفرادهم بالرئاسة. و«في»: سببية، أي: يستمعون بسبب حصولهم فيه، أو: ضمّن «يستمعون» يعرجون. وقال الزجاج: {يستمعون فيه} أي: عليه، {فليأت مُستمعهم بسلطانٍ مبين} بحجة واضحة، تصدق استماع مستمعهم. ثم سفَّه أحلامهم بقوله: {أم له البناتُ ولكم البنونَ} حيث اختاروا لله ما يكروهون وهم حكماء في زعمهم، {أم تسألُهم أجراً} على التبليغ والإنذار {فهم} لأجل ذلك {من مَغْرَم مُثقلون} أي: من التزام غرامة فادحة محمّلون الثقل، فلذلك لا يتبعونك. والمغرم: أن يُلزم الإنسان ما ليس عليه. {أم عندهم الغيبُ} أي: اللوح المحفوظ، المكتوب فيه الغيوب، {فهم يكتبون} ما فيه، حتى يتكلمون في ذلك بنفي أو إثبات. {أم يُريدون كيداً} هو كيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، {فالذين كفروا} وهم المذكورون، ووضع الموصول موضع ضميرهم؛ للتسجيل عليهم بالكفر، أي: ف {هم المكِيدُونَ} الذين يحيق بهم كيدّهم، ويعود عليه وبالُه، لا مَن أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر وغيره. {أَم لهم إِلهٌ غيرُ الله} يمنعهم من عذابه، {سبحان الله عما يُشركون} أي: تنزيهاً له عن إشراكهم، أو: عن شركة ما يُشركونه به. وحاصل ما ذكر الحق وتعالى من الإضرابات: أحد عشر، ثمانية طعنوا بها في جانب النبوة، وثلاثة في جانب الربوبية، وهو قوله: {أم خُلقوا من غير شيء}، {أم خَلقوا السماوات والأرض}، {أم لهم إله غير الله} ذكرها الحق تعالى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي: كما طعنوا في جنابك طعنوا في جانبي، فاصبر حتى نأخذهم. الإشارة: فذكِّر أيها الخليفة للرسول، فما أنت بحمد الله بكاهنٍ ولا مجنونٍ، وإن رموك بشيء من ذلك. قال القشيري: قد علموا أنه صلى الله عليه وسلم بريء من الكهانة والجنون، ولكنهم قالوه على جهة الاشتفاء، كالسفيه إذا بسط لسانه فيمن يشنأُه، بما يعلم أنه بريء مما يقوله. ه. وكل ما قيل في جانب النبوة يُقال مثله في جانب الولاية، سُنَّة ماضية. قال القشيري: طبع الإنسان متنفرة من حقيقة الدين، مجبولة على حب الدنيا والحظوظ، لا يمكن الخروج منها إلا بجهد جهيد، على قانون الشريعة، ومتابعة الرسول عليه السلام وخلفائه، وهم العلماء الربانيون، الراسخون في العلم بالله، من المشايخ المُسلِّكين في كل زمان، والخلق مع دعوى إسلامهم يُنكرون على سيرهم في الأغلب، ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة، والانقطاع عن الخلق، والتبتُّل إلى الله، وطلب الأمن. كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيَّدهم بروح منه، وهو الصدق في الطلب، وحسن الإرادة المنتجَة من بذر {يُحبهم ويُحبونه} وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ه. مختصراً. وقوله تعالى: {قل تربصوا...} الآية، قال القشيري: ولا ينبغي لأحد أن يتمنى نفاق سوقه بموت أحد، لتنتهي النوبة إليه، قَلَّ ما تكون هذه صفته إلا سَبَقَته منيتُه، ولا يدرك ما تمناه. ه. وقال في مختصره: الآية تُشير إلى التصبُّر في الأمور، ودعوة الخلق إلى الله، والتوكُّل على الله فيما يجري على يد عباده، والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين. ه. وقوله: {أم تأمرهم أحلامُهم بهذا}... إلى قوله: {عما يشركون} هذه صفة أهل الانتقاد على أهل الخصوصية في كل زمان، وهي تدلّ على غاية حمقهم وسفههم، نجانا الله من جميع ذلك.
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)} يقول الحق جلّ جلاله: {وإِن يَرَوا كِسْفاً} قطعة {من السماء ساقطاً} عليهم لتعذيبهم، {يقولوا} من فرط طغيانهم وعنادهم: هذا {سَحَابٌ مركومٌ} أي: تَرَاكَم بعضها على بعض لمطرنا، ولم يُصدقوا أنه ساقط عليهم لعذابهم، يعني: أنهم بلغوا في الطغيان بحث لو أسقطناه عليهم حسبنا قالوا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 92] لعاندوا وقالوا سحاب مركوم. {فذرهم حتى يُلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون}، وهو اليوم الذي صُعقوا فيه بالتقل يوم بدر، لا عند النفخة الأولى، كما قيل؛ إذ لا يصعق بها إلا مَن كان حيّاً حينئذ. وقرأ عاصم والشامي بضم الياء، يقال: صعقه، فصُعق، أو: من أصعقه. {يوم لا يُغني عنهم كيدُهم شيئاً} من الإغناء، بدل من «يومهم» ولا يخفى أن التعرُّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له في الانتفاع به، وليس ذلك إلا ما دبّروه في أمره صلى الله عليه وسلم من الكيد يوم بدر، من مناشبتهم القتال، وقصد قتله خفية، وليس يجري في نفخة الصعق شيء من الكيد والحيل، فلا يليق حمله عليه. {ولا هم يُنصرون} من جهة الغير في دفع العذاب عنهم. {وإِنَّ للذين ظلموا} أي: لهم، ووضع الموصول موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم، أي: وإنَّ لهؤلاء الظلمة {عذاباً} آخر {دون ذلك} دون ما لاقوه من القتل، أي: قبله، وهو القحط الذي أصابهم، حتى أكلوا الجلود الميتة. أو: وإنَّ لهم عذاباً دون ذلك، أي: وراءه، وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة. {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون} أن الأمر كما ذكر، وفيه إشارة إلى أن فيهم مَن يعلم ذلك، وإنما يصر على ذلك عناداً: أو لا يعلمون شيئاً أصلاً؛ إذ هم جاهلية جهلاء. الإشارة: أهل الحسد والعناد لا ينفعهم ما يرونه من المعجزات والكرامات، أو الحسد يُغطي نور البصيرة، فذرهم في غفلتهم وحيرتهم، وكثافة حجابهم، حتى يُصعقوا بالموت؛ فيعرفون الحق، حين لا تنفع المعرفة فيقع الندم والتحسُّر، وإنَّ لهم عذاباً دون ذلك، وهو عيشهم في الدنيا عيش ضنك في هَم وغم وجزع وهلع، ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون ذلك؛ لأنهم لا يرون إلا مَن هو مثلهم. ومَن توسعت دائرة معرفته، فعاش في روح وريحان، فهو غائب عنهم، لا يعرفون مقامه، ولا منزلته.
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} يقول الحق جلّ جلاله: لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمَن كان على قدمه: {واصبرْ لحُكم ربك} بإمهالهم إلى اليوم الموعود مع مقاساتك آذاهم، أو: واصبر لِمَا حكم به عليك من شدائد الوقت، وإذاية الخلق، {فإِنك بأعيُننا} أي: حفظنا وحمايتنا، بحيث نراقبك ونكلؤك. والمراد بالحُكم: القضاء السابق، أي: لما قُضي به عليك، وفي إضافة الحُكم إلى عُنوان الربوبية تهييج على الصبر، وحل عليه، أي: إنما هو حُكم سيدك الذي يُربيك ويقوم بأمورك وحفظك، فما فيه إلا نفعك ورفعة قدرك. وجمع العين والضمير للإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ والرعاية. {وسبِّح بحمد ربك} أي: نزِّهه ملتبساً بحمده على نعمائه الفائتة للحصر، {حين تقومُ} أي: من أيّ مكان قمت، أو: من منامك. وقال سعيد بن جبير: حين تقوم من مجلسك تقوم: سبحانك اللهم وبحمدك. وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّكَ، ولا إله غيرك. ه. {ومن الليل فسبِّحه} أي: في بعض الليل وأفراده؛ لأن العبادة فيه أشق على النفس، وأبعد من الرياء، كما يلوح به تقدميه على الفعل، والمراد إما الصلة في الليل، أو التسبيح باللسان؛ سبحان الله وبحمده، {وإِدبار النجوم} أي: وقت إدبارها، أي: غيبتها بضوء الصبح، والمراد: آخر الليل، وقيل: التسبيح من الليل: صلاة العشاء، وإدبار النجوم: صلاة الفجر. وقرأ زيدٌ عن يعقوب بفتح الهمز، أي: أعقابها إذا غربت. الإشارة: في هذه تسلية لأهل البلاء والجلال، فإنّ مَن عَلِمَ أن ما أصابه إنما هو حُكم ربه، الذي يقوم به ويحفظه، وهو بمرئً منه ومسمَعٍ، لا يهوله ما نزل، بل يزيده غبطةً وسروراً؛ لعلمه بأنه ما أنزله به إلا لرفعة قدره، وتشحير ذهب نفسه، وقطع البقايا منه، فهو في الحقيقة نعمة لا نقمة، وفي الحِكَم: «مَن ظنّ انفكاك لطف الله عن قدره، فذلك لقصور نظره». قال القشيري: أي: اصبر لما حكم به في الأزل، فإنه لا يتغير حكمنا الأول إن صبرت وإن لم تصبر، لكن إن صبرت على قضائي جزيت ثواب الصابرين بغير حساب، وفيه إشارة أخرى، أي: اصبر فإنك بأعيينا نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [النحل: 127]. ه. وقيل المعنى: فإنك من جُملة أعيننا، وأعيان الحق الكُمل من الأنبياء، والرسل، والملائكة، وأكابر أوليائه، فإنهم أعيان تجلياته، ولذلك الإشارة بقوله عمر رضي الله عنه في شأن عليّ- كرّم الله وجهه- حين ضرب شخصاً فشكاه: «أصابته عين من عيون الله»، وذلك لما تمكنوا من سر الحقيقة، صاروا عين العين. ومن ذلك قولهم: ليس الشأن أن تعرف الاسم، إنما الشأن أن تكون عين الاسم، أي: عين المُسمّى، وهو سر التصرُّف بالهوية عند التمكين فيها، وتمكُّن غيبة الشهود في الملك المعبود، وقوله تعالى: {وسبح بحمد ربك...} الخ، فيه إشارة إلى مداومة الذكر، والاستغراق فيه، ودوام التنزيه لله تعالى عن رؤية شيء معه. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} يقول الحق جلّ جلاله: {والنجم} أي: الثريا، أو: جنس النجم {إِذا هَوَى} إذا غرب، أو: انتثر يوم القيامة، أو طلع، يقال: هَوَى هَوِياً، بوزن «قَيول» إذا غرب، وهَوى هُوياً، بوزن دُخول: إذا طلع. والعامل في {إذا} فعل القسم، أي: أقسم بالنجم وقت غروبه أو طلوعه. وجواب القسم: {ما ضلَّ} عن قصد الحق {صاحِبكُم} أي: محمد صلى الله عليه وسلم، والخطاب لقريش. {وما غَوَى} في اتباع الباطل، أو: ما اعتقد باطلاً قط، أي: هو في غاية الهدى والرشد، وليس مما تتوهموه من الضلالة والغواية في شيء. فالضلال، نقيض الهدى، والغي نقيض الرشد، ومرجعهما لشيء واحد، وهو عدم اتباع طريق الحق. وقال الفخر: أكثر المفسرين لم يُفرقوا بين الغي والضلال، والفرق بينهما: أنَّ الغي في مقابلة الرشد، والضلال أعم منه، والاسم من الغي: الغَواية- بالفتح- والحاصل: أنّ الغي أقبح من الضلال، إذ لا يرجى فلاحه. وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان صاحبهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم خُبراً ببراءته- عليه الصلاة والسلام- مما نفى عنه بالكلية، وباتصافه- عليه الصلاة والسلام- بغاية الهدى والرشد؛ فإنَّ كون صحبتهم له صلى الله عليه وسلم، ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً. وتقييد القسم بوقت الهُوى؛ لأن النجم لا يهتدي به الساري إلا عند هبوطه أو صعوده، وأما ما دام في وسط السماء فلا يهتدي به، ولا يعرف المشرق من المغرب، ولا الشمال من الجَنوب. ثم قال: {وما ينطق عن الهوى} أي: وما يصدر نطقه بالقرآن أو غيره عن هواه ورأيه أصلاً، {إنْ هو إِلا وحيٌ} من الله تعالى {يُوحَى} إليه، وهي صفة مؤكدة لوَحْي، لرفع المجاز، مفيدة لاستمرار التجدُّد للوحي، واحتج بهذه الآية مَن لا يرى الاجتهاد للأنبياء- عليه السلام- ويُجاب بأن الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي، لا نُطقاً عن الهوى. {علَّمه شديدُ القوى} أي: مَلكٌ شديد قواه، وهو جبريل عليه السلام: فإنه الواسطة في إيراد الوحي إلى الأنبياء، ومَن قوته أنه خلع قُرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى، وحملها على جناحه، ورفعاه إلى السماء ثم قلبها، وصاح صيحةً بثمود، فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من لحظة. {ذو مِرَّةٍ} أي: ذو خصابة في عقله، ورزانة ومتانة في دينه. وأصل المِرة: الشدّة، من مراير الحبل، وهو فتله فتلاً شديداً، أو: ذو حُسن في منظره، {فاستوى}: عطفٌ على «علَّمه» بطريق التفسير، فإنه إلى قوله: {ما أوحى} بيان لكيفية التعليم، أو: فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها، دون الصورة التي كان يتمثّل بها كلما هبط بالوحي، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ أن يراه في الصورة التي خلقه اللّهُ عليها، وكان صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريلُ من المشرق، وسدّ الأرض من المغرب، وملأ الأفق، فخرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فنزل في صورة الأدمي، فضمّه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه. قيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الأصلية إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه رآه فيها مرتين؛ مرة في الأرض، ومرة في السماء، وقيل: استوى بقوته على ما جعل له من الأمر. {وهو} أي: جبريل {بالأُفق الأعلى} أفق الشمس، أي: مطلعها، {ثم دنا} جبريلُ من النبي صلى الله عليه وسلم {فتدلَّى} أي: زاد في القرب، أو: استرسل من الأفق مع تعلُّق به. يقال: تدلت الشجرة، ودلّى رجله من السرير، ودلّى دلوه، والدوالي: الثمر المُعلّق. {فكان قابَ قوسين} أي: مقدار قوسين عربيين. والقاب: المقدار. قال قتادة وغيره: معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال مجاهد والحسن: من الوتر إلى العود في وسط القوس، أي: فكان بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين، {أو أدنى} في تقديركم، كقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وهذا لأنهم خُوطبوا على لغتهم وفهمهم، وهم يقولون: هذا مقدار قوسين أو أدنى. {فأَوْحَى إلى عبده ما أَوْحَى} أي: فأوحى الله تعالى إلى عبده بواسطة تجلّي جبريل {ما أوحى} من الأمور العظيمة التي لا تفي بها العبارة، وقيل: أوحى إليه: «أنَّ الجنة مُحرّمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» ويمكن حمل الآية على قصة المعراج، أي: {علَّمه شديد القوى} وهو الله تعالى، {ذُو مِرة} أي: شدة ومتانة، ومنه: أسمه «المتين»، {فاستوى} بنوره أي: تجلّى بنور ذاته من ناحية الأُفق، أي: العلو (فتدلّى) ذلك النور {فكان قاب قوسين أو أدنى} وفي البخاري: «فدنا ربُّ العزة دنو يليق بجلاله ومجده» ويرجع لتجلّيه لنبيه، وتنزُّله له، وتعرّفه له، وفي حديث الإسراء عنه- عليه الصلاة والسلام-: «سمع النداء من العلي الأعلى: أُدن يا خير البرية، أُدن يا محمد، فأدناني ربي حتى كنتُ كما قال تعالى: {ثم دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى}» قال القشيري: ويُقال: كان بينه وبين ربه قَدْر قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى. {ما كَذَبَ الفؤادُ} أي: فؤاد محمد عليه السلام {ما رأى} أي: ما رآه ببصره من صورة جبريل على تلك الكيفية، أو: من نور الحق تعالى الذي تجلّى له، أي: ما قال فؤاده لَمَّا رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذباً؛ لأنه عرفه بقلبه، كما عرفه ببصره، وقيل: على إسقاط الخافض، أي: ما كذب القلب فيما رآه البصر، بل ما رآه ببصره حققه، وفي الحديث: سئل صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت ربي بفؤادي مرتين»، حديث آخر: «جعل نور بصري في فؤادي، فنظرتُ إليه بفؤادي»، يعني أنه انعكس نور البصر إلى نور البصيرة فرأى ببصره ما رأته البصيرة، وجاء أيضاً: أنه لما انتهى إلى العرش صار كله بصراً، وبهذا يرتفع الخلاف، وأنه رآه ببصر رأسه؛ وقوله عليه السلام حين سأله أبو ذر: هل رأيت ربك؟ فقال «نورَاني أراه» وفي رواية: «نورٌ أَنَّى أراه» ؟ بالاستفهام، وفي طريق آخر: «رأيت نوراً» وحاصلها: أنه رأى ذات الحق متجلية بنور من نور جبروته؛ إذ لا يمكن أن ترى الذات إلا بواسطة التجليات، كما هو مقرر عند محققي الصوفية، كما قال الشاعر: وليستْ تُنال الذاتُ من غير مَظهرٍ *** ولو هُتك الإنسانُ من شدةِ الحرصِ وقال كعب لابن عباس: إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلَّم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين. وقيل لابن عباس: ألم يقل الله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، قال: ذلك إذا تجلّى بنوره. الذي هو نوره الأصلي، يعني أن الله تعالى يتجلّى لخلقه على ما يطيقون، ولو تجلّى بنوره الأصلي لتلاشى الخلق، كما قال في الحديث: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت تجليات وجهه ما أدركه من بصره» {أَفتُمارونه} أي: أفتجادلونه، من: المراء، وهو المجادلة، واشتقاقه من: مَرْي الناقة، وهو استخراج لبنها، كأنَّ كل واحد من المتجادلين يَمْري ما عند صاحبه، أي: يستخرجه. وقُرئ في التواتر: «أَفَتَمْرُونه» أي: أفتغلبونه. ولما فيه من معنى الغلبة، قال تعالى: {على ما يرى} فعدّى بعلى، كما تقول: غلبته على كذا، وقيل: أفتمرونه: أفتجحدونه، يقال: مريته حقّه: جحدته، وتعديته ب «على» على مذهب التضمين، والمعنى: أفتُخاصمونه على ما يرى معانيةً، وحققه باطناً. {ولقد رآه} أي: رأى محمدٌ جبريلَ على صورته الأصلية، أو: رأى ربه على تجلٍّ خاص وتعرفٍ تام، {نزلةً أخرى} مرةً أخرى، والحاصل: أنه عليه السلام رأى ربه بتجلٍّ خاص جبروتي مرتين، عند خرق الحُجب العلوية فوق العرش، عند السدرة، وأما رؤيته عليه السلام لله تعالى في مظاهر الكائنات ففي كل حين، لا يغيب عنه طرفة عين. والنزلة: فعلة من النزول، نُصب نَصبَ الظرف الذي هو «مرّة». {عند سِدرة المنتهى} الجمهور: أنها شجرة النبق في السماء السابعة، عن يمين العرش، وتسميتها المنتهى؛ إما لأنها في منتهى الجنة وآخرها، أو: لأنها لم يُجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها، أو: إليها ينتهي أرواح الخلائق، أو: أرواح الشهداء، وفي الحديث: «أنها شجرة يسير الراكب في ظلها ألف عام، لا يقطعها، والورقة منها تُظل الأُمّة، وتمرها كالقِلال الكبار». {عندها جنةُ المأوى} أي: الجنة التي يصير إليها المتقون ويأوون إليها، أو: تأوي إليها أرواح الشهداء والصدّيقين والأنبياء. قال ابن جُزي: يعني أن الجنة التي وَعَدَ اللّهُ بها عبادَه هي عند سدرة المنتهى، وقيل: هي جنة أخرى، والأول أظهر وأشهر. ه. ويؤيده ما في الحديث: «إن النيل والفرات يخرجان من أصلها» وهما من الجنة، كما في الصحيح. {إِذ يغشى السدرةَ ما يغشى} ظرف للرؤية، أي: لقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها ما غشيها، مما لا يكتنهه الوصف، ولا يفي به البيان، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، استحضاراً لصوتها البديعة، أو للإيذان باستمرار الغشيان وتجدُّده، وقيل: يغشاها الجمُّ الغفير من الملائكة، يعبدون الله تعالى عندها، وقيل: يزورونها متبركين بها، كما يزور الناسُ الكعبة، وقيل: يغشاها فَراش من ذهب، والفَراش- بفتح الفاء- ما يطير ويضطرب. {ما زاغ البصرُ} أي: بصر محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أي: ما عدل عن رؤية العجائب التي مُكِّنَ من رؤيتها، {وما طغى} وما جاوز ما أمر برؤيته، {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} أي: والله لقد رأى من عجائب الملكوت وأسرار الجبروت وما لا يفي به نطاق العبارة وقد دُوِّنَتْ هنا كُتبٌ في عجائب ما رآه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج. الإشارة: أقسم اللّهُ تعالى بنجم العلم إذا طلع في أفق سماء القلوب الصاحية، إنَّ هذا القلب الذي طلع فيه نجم العلم بالله، وأشرقت عليه شمسُ الحقائق، لا يَضل صاحبُه ولا يغوى، وما ينطق عن الهوى؛ لأنه مستغرق في شهود الحق، لا يتجلى فيه إلا الحق، {إن هو} أي: ما يتجلى فيه إلا وحي يُوحى من قِبل الإلهام الإلهي، علّمه شديدُ القوى، وهو الوارد الرباني، ذو مِرةٍ وشدة؛ لأنه من حضرة قهّار، ولا يُصادم شيئاً إلا دفعه، فاستوى وهو بالأفق الإعلى على من سماء الغيوب، ثم دنا من القلب فتدلّى، فكان من القلب قاب قوسين أو أدنى، فأوحى اللّهُ تعالى بواسطة ذلك الوارد إلى عبده ما أوحى من علوم الحقائق والأسرار، ومن مكاشفات غيوب الأقدار، ما كذب الفؤادُ فيما رأى لأنه حق، لكن قهرية العبودية غيَّبت عنه تعيين وقت وقوعه. ولقد رآه، أي: رأى القلبُ أسرارَ ذات الحق، نزلةً أخرى في عالم الجبروت، الخارج عن دائرة التجليات الكونية، وهي الأسرار اللطيفة، المحيطة في الأنوار الملكوتية والملكية، عند سِدرة المنتهى، وهي شجرة القبضة المحمدية، التي انتهى إليها علم العلماء، وأرواح الشهداء، إذ لا يخرج عن دائرتها أفكار العارفين. عندها جنة المأوى التي يأوي إليها أفكار العارفين وأسرار الراسخين، إذا يغشى السدرة- أي: شجرة الكون- ما يغشى من الفناء والتلاشي عند سطوع شمس الحقائق، ما زاغ بصرُ البصيرة عن شهود تلك الأسرار، وما حجبه عنها أرض، ولا سماء، ولا عرش، ولا كرسي؛ لتلطُّف تلك العوالم في نظر العارف، وما طغى: وما جاوز العبودية حتى يطمع في الإحاطة بعظمة كنه الربوبية، فإنَّ الإحاطة لا تُمكن، لا في هذه الدار، ولا في تلك الدار، بل يبقى الترقي في الكشوفات، والمزيد من حلاوة الشهود أبداً سرمداً، لقد رأى هذا القلب الصافي من عجائب ربه الكبرى، حيث وسع مَن لم تسعه أرضه ولا سماؤه. وقال الروتجبي بعد كلام: في هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه، إذ رآه نزلةً أخرى، عند سدرة المنتهى، ظنَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ ما رآه في الأول لا يكون في الكون- أي: في مظهر الكون- لكمال علمه بتنزيه الحق، فلما رآه ثانياً علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان، وعادة الكُبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان عليهم كريمً، فهذا منه سبحانه إظهار كمال حُبه لحبيبه. وحقيقة الإشارة: أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس، فلبس الأمر، وظهرَ المكرُ، وبان الحقُّ من شجرة سدرة المنتهى، كما بان من شجرة العِناب لموسى، ليعرفَهُ حبيبُه بكمال المعرفة، إذ ليس بعارف مَن لم يعرف حبيبه في لباس مختلفة، وبيان ذلك في قوله: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} وأبهم ما غشيه؛ لأن العقول لا تُدرك حقائق ما يغشاها، وكيف يغشاها، والقِدم منزّه عن الحلول في الأماكن؟! كان ولا شجرة، وكانت الشجرة مرآه لظهوره سبحانه، ما ألطف ظهوره، لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يؤمنون به بعد عرفانهم به. ه.
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} يقول الحق جلّ جلاله: {أفرأيتم اللاتَ والعُزّى ومناةَ الثالثةَ الأخرى} أي: أخبروني عن هذه الأشياء التي تبعدونها من دون الله، هل لها من القدرة والعظمة التي وُصف بها رَبُّ العزة في الآي السابقة حتى استحقت العبادة، أم لا؟ واللات وما بعدها: أصنام كانت لهم، فاللات كانت لثقيف بالطائف، وقيل: كانت بنخلة تعبدها قريش، وهي فَعْلَةٌ، من: لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها. وقرأ ابن عباس ومجاهد ورُويس بتشديد التاء، على أنه اسم فاعل، اشتهر برجلاً كان يُلتُّ السَّوِيق بالزيت، ويُطعمه الحاجَ، فلما مات عكفواعلى قبره يبعدونه. {والعُزى} كانت لغفطان، وهي شجرة كانوا يعبدونها، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شياطنة ناشرة شعرها، واضعة يدها على رأسها، وهي تُولول، فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تلك العُزى، لن تُعبد بعد اليوم أبداً». {ومناة}: صخرة على ساحل البحر لهذيل وخزاعة، وقيل: بيت بالمشلّل يعبدوه بنو كعب، وسميت مناة؛ لأن دماء النسائك تُمنى، أي: تُراق عندها؛ لأنهم كانوا يذبحون عندها. وقرأ بان كثير بالهمزة بعد الألف، مشتق من النوء؛ لأنهم كانوا يستمطرون بالأنواء عندها، تبرُّكاً بها، وقيل: سَموا هذه الأصنام بأسماء الله، وأَنَّثوها، كأنها بنات الله في زعمهم الفاسد، فاللات من «الله»، كما قالوا: عمر وعمرة، وعباس وعباسة، فالتاء للتأنيث. والعُزَّى: تأنيث العزيز، ومناة: تأنيث منان، فغُيّر تخفيفاً، ويؤيد هذا قولُه تعالى ردّاً عيهم: {ألكم الذكُر وله الأنثى}. و{الأخرى}: صفة ذمّ لها، وهي المتأخرة الوضيعة القدر، كقوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ} [الأعراف: 38] أي: وضعاؤهم لرؤسائهم، وقيل: وصفها بالوصفين؛ لأنهم كانوا يُعظِّمونها أكثر من اللات والعزى، والفاء في قوله: {أفرأيتم} للعطف على محذوف، وهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: عَقِب ما سمعتم من كمال عظمته تعالى في ملكه وملكوته، وأحكام قدرته، ونفوذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما، رأيتم هذه الأصنام مع حقارتها بنات الله، مع وأدكم البنات، وكراهتكم لهنَّ؟. {ألكمُ الذكرُ وله الأنثى} أي: أتُحبون لكم الذكر وتنسبون له الأنثى كهذه الأصنام والملائكة؟ {تلك إِذاً قسمةٌ ضِيزَى} أي: جائرة، من: ضازه يضيزه: إذا ظلمه، وصرّح في القاموس بأنه مثلث الضاد ضيزى وضوزى وضازى، وهو هنا فُعلى بالضم، من الضيز، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء، كما فعل في «بيض»، فإن «فِعلى» بالكسر لم تأت وصفاً، وإنما هي من بناء الأسماء، كالشّعرى والدفلى. وقال ابن هشام: فإن كانت فُعلى صفة محضة وجب قلب الضمة كسرة، ولم يُسمع من ذلك إلا «قسمة ضيزى» «ومشية حِيكى»، أي: يتحرك فيها المنكبان. ه. وقرأ المكيُّ بالهمز، من: ضأزه: ظلمه، فهو مصدر نعت به. {إِنْ هي} أي: هذه الأصنام {إِلاَّ أسماءٌ} وليس تحتها في الحقيقة مسميات؛ لأنكم تدّعون لها الألوهية، وهي أبعد شيء منها، {سميتموها} آلهة، أو: سميتم بها هذه الأصنام، واعتقدتم أنها آلهة، بمقتضى أهوائكم الباطلة، {أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّهُ بها} بعبادتها {من سلطان} من حجة. {إِن يتبعونَ} فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها {إلاَّ الظنَّ}: إلا توهم أنَّ ما هم عليه حق، توهُّماً باطلاً، {وما تهوى الأنفُسُ} أي: ما تشتهيه أنفسهم الأمّارة، {ولقد جاءهم من ربهم الهدى} الرسول والكتاب فتركوه. {أم للإِنسان ما تمنَّى}. «أم»: منقطعة، والهمزة للإنكار، أي: ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسُه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها، كقول بعضهم: {وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50]، وكَتَمَنِّي بعضُهم أن يكون هو النبي، {فللّه الآخرةُ والأُولى} أي: الدنيا والآخرة، هو مالكهما والحاكم فيهما، يُعطي الشفاعة والنبوة مَن شاء، لا مَن تمناها بمجرد الهوى، وهو تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما تمنّى، فإنَّ ختصاص أمور الآخرة والأُولى به تعالى مقتضٍ لانتفاء أن يكون للإنسان شيء مما تمنى إلا ان يشاء ويرضى. الإشارة: هذه الأصنام موجودة في كل إنسان، فاللات: حب اللذات والشهوات الجسمانية الفانية، فمَن كان حريصاً عليها، جامعاً لأسبابها، فهو عابد لها، والعُزى: حب العز والجاه والرئاسة وسائر الشهوات القلبية، فمَن طلبها فهو عبد لها، ومناة: تمني البقاء في الدنيا الدنية الحقيرة، وطول الأمل فيها، وكراهية الموت، فمَن كان هذا وصفه فهو عبد الدنيا، كاره لقاء الله، فيكره اللّهُ لقاءه، فتوجه لهؤلاء العتاب بقوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر} حيث تُحبون ما هو كمال لأنفسكم، {وله الأنثى} ؟ حيث جعلتم هذه الأشياء الحقيرة شريكة لله في استحقاق العبادة والمحبة، تلك إذاً قسمة ضِيزى جائرة، ما هي إلا أسماء ليس تحتها طائل، تفنى ويبقى عليها العذاب والعتاب، سميتموها واعتنيتم بشأنها والانكباب عليها، أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بمتابعتها والحرص على تحصيلها من سلطان ولا برهان، إن يتبعون في ابتاعها والحرص عليها إلا الظن، ظنوا أنها كانت مباحة في ظاهر الشرع لا تَضُر القلبَ ولا تحجبه عن شهود الرب، وهو رأي فاسد؛ إذ ليس للقلب إلا وجهة واحدة، إن توجه لطلب الحظوظ أعرض عن الله قطعاً، وإن توجه لله أعرض عما سواه، وراجع ما تقدم في قوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف: 20] الآية. ويتبعون أيضاً ما تهوى الأنفُس الأمَّارة؛ لأنها لا تهوى إلا ما فيه حظها وهواها، ولقد جاءهم من ربهم الهُدى، أي: مَن يهدي إلى طريق السلوك، بقطع العلائق النفسانية والقلبية، وهم خلفاء الرسول عليه السلام، الدعوان إلى الله، من شيوخ التربية في كل زمان، أم للإنسان ما تمنى، ليس له ما يتمنى إلا بسابق العناية، فلا يُدرك العبدُ من الدنيا والآخرة، ومن الله تعالى، إلا ما سبق به القدر، كما قال الشاعر: ما كل ما يتمنى المرءُ يُدركه *** تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ فلله الآخرة والأولى، قال القشيري: يُشير إلى قَهْرمَانيةِ الحق تعالى على العالم كله، ملكه وملكوته، الأخروي والدنيوي، فلا يملك الإنسان من أمر الدارين شيئاً، بل ملك الآخرة تحت تصرف يده اليمنى، المتقضية لموجبات حصول الآخرة من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة، يهبه باسمه الواهب لمَن شاء أن يكون مظهراً للطفه وجماله، وملك الدنيا تحت تصرف يده اليسرى، المقتضية لأسباب حصول الدنيا، من حب الدنيا الدنية، المنتجة للخطيئة ومتابعة النفس الخبيثة، وموافقة الطبيعة اللئيمة، باسمه المقسط، لمَن شاء أن يكون مظهر قهرِه وجلاله، وليس ذلك يزيد في ملكه، ولا هذا ينقص من ملكه، وكلتا يديه ملأى سحّاء، أي: فيّاضة. ه.
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)} قلت: {كم}: خبرية، تفيد التكثير، ومحلها: رفع بالابتداء، والجملة المنفية: خبر، وجمع الضمير في {شفاعتهم} لأن النكرة المنفية نعم. يقول الحق جلّ جلاله: {وكم من ملكٍ في السماوات} أي: كثير من الملائكة {لا تُغني شفاعتُهم} عند الله تعالى {شيئاً} من الإغناء في وقت من الأوقات، {إِلا مِن بعد أن يأذن اللّهُ} لهم في الشفاعة {لمَن يشاء} أن يشفعوا له، {ويرضَى} ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما مَنْ عداهم من أهل الكفر والطغيان فيهم عن إذن الله بمعزلٍ، وعن الشفاعة بألف معزلٍ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر، فما ظنهم بحال الأصنام؟! ثم شنَّع عليهم في اعتقادهم الفاسد في الملائكة، فقال: {إِنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة} وما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي {ليُسمُّون الملائكةَ} المنزّهين عن سمات النقص {تسميةَ الأنثى} فإن قولهم: الملائكة بنات الله، قول منهم بأن كُلاً منهم بنته- سبحانه، وهي التسمية بالأنثى، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنهم في الشناعة واستتباع العقوبة بحيث لا يجترئ عليها إلا مَن لا يؤمن رأساً. {وما لهم به من علم} أي: بما يقولون. وقرىء «بها» أي «بالتسمية، أو بالملائكة. {إِن يتبعونَ إِلا الظن} وهو تقليد الآباء، {وإن الظن} أي: جنس الظن، ولذلك أظهر في موضع الإضمار، {لا يُغني من الحق شيئاً} من الإغناء؛ لأن الحق عبارة عن حقيقة الشيء، وهو لا يُدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتداد به في باب المعارف الحقيقية، وإنما يُعتد به في العمليات وما يؤدي إليها. {فأعْرِضْ عَمَّن تولى عن ذِكْرِنا} أي: عنهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة، ولتعليل الحكم، أي: فأعرض عمن تولى عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني، وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين، المذكِّر بالأمور الآخرة، أو: عن ذكرنا كما ينبغي، فإن ذلك يستتبع ذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، قال الطيبي: أعرِضْ عن دعوة مَن تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة، وهو يقول: {ماهي إلا حياتنا الدنيا...} الخ، {ولم يُرِدْ إِلاَّ الحياةَ الدنيا} وزخارفها، قاصراً نظره إليها، والمراد بالإعراض عنه: إهماله والغيبة عنه، فإنَّ مَن أعرض عن الذكر، وانهمك في الدنيا، بحيث كانت هي منتهى همته، وقصارى سعيه، لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عناداً، وإصراراً على الباطل. {ذلك} أي: ما هم فيه من التولِّي، وقصر الإرادة على الحياة الدنيا؛ هو {مبلغُهم من العلم} أي: منتهى علمهم، لا يكادون يُجاوزونه إلى غيره، فلا تُجدي فيهم الدعوة والإرشاد شيئاً. وجمع الضمير بعد أن أفرده باعتبار معنى» مَن «ولفظها، والمراد بالعلم: مطلق الإدراك الشامل للظن الفاسد. {إِنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمَن اهتدى} أي: هو أعلم بالضال والمهتدي ومجازاتهما، وهو تعليل الأمر بالإعراض، وتكرير «هو أعلم» لزيادة التقرير، وللإيذان بكمال تباين المعلومين، أي: هو المبالغ في العلم بمَن لا يرعوي عن الضلال، ومَن يَقبل الاهتداء في الجملة، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، فإنهم من القبيل الأول. الإشارة: شفاعة كل أحد على قدر جاهه وتمكُّنه من الله، فقد يشفع الوليّ في أهل زمانه، كما تقدّم في مريم. والاعتقاد في الملائكة: أنهم أنوار لطيفة من تجليات الحق، اللطافة فيهم أغلب، لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة، يتشكلون كيف شاؤوا. وقوله تعالى: {فأعْرِض عن من تولى عن ذكرنا...} الآية، فيه تحذير من مخالطة الغافلين والصحبة لهم، فإنَّ صُحبتهم سُم قاتل، والجلوس معهم تضييع وبطالة، إلا أن يستولي نورُ مَن يصحبهم على ظلمتهم، فيجرّهم إلى الله، فهذا جلوسه معهم كمال، وقال بعضهم: الوحدة أفضل من الجلوس مع العامة، والجلوس مع الخاصة أفضل من العزلة، إلا مَن تحقق كماله، فلا كلام معه. إشارة أخرى: {وكم من ملك...} الخ، أي: كثير من الأرواح الصافية السماوية لا تُغني شفاعتها في الأنفس الظلمانية الطبيعية، لتنقلها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، إلا مِن بعد أنْ يأذن اللّهُ لمَن يشاء انتقاله وعروجه إلى سماء الأرواح، ويرضى أن يُسكنه في الحضرة القدسية. إن الذين لا يؤمنون بالحالة الآخرة، هي الانتقال من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، ويُنكرون على مَن يُوصل إليها، لَيُسَمُّون الخواطر القلبية بتسمية الخواطر النفسانية، أي: لا يُميِّزون بينهما، لجهلهم بأحوال القلوب، ما لهم به- أي: بهذا التمييز- من علم، إن يتبعون في جُلّ اعتقاداتهم إلا الظن القوي، وإنَّ الظن لا يُغني عن الحق شيئاً، فلا ينفع مقام الإيمان إلا الجزم عن دليل وبرهان، ولا في مقام الإحسان إلا شهود الحق بالعيان، فمَن لم يحصل هذا فهو غافل عن ذكر الله الحقيقي، يجب الإعراض عنه، قال تعالى: {فأعْرِضْ عن من تولى عن ذكرنا ولم يُرد إلا الحياة الدنيا} وزخارفها، ذلك مبلغهم من العلم، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون. وقال اللجائي، في قطبه: وإياك أن تكون دنياك إرادة قلبك تبعاً لشهوات نفسك، أو تكون دنياك أحب إليك من آخرتك، وقلبك من ذكر مولاك خالياً معرضاَ، فإنها صفة الهالكين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فأعْرِض عن من تولى عن ذكرنا...} الآية. وقيل لأبي الحسن الشاذلي: يا سيدي، بمَ فُقْتَ أهلَ عصرك، ولم نرَ كل كبير عمل؟ فقال: بخصلة، أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وتمسكتُ بها أنا، وهي الإعراض عنكم وعن دنياكم. ه. إن ربك هو أعلم بمَن ضَلَّ عن طريق الوصول إليه، وهو أعلم بمن اهتدى إليها، فيُعينه، ويجذبه إلى حضرته، فإن الأمر كله بيده.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} يقول الحق جلّ جلاله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} خَلقاً وملِكاً، لا لغيره، لا استقالاً ولا اشتراكاً، {ليَجزي الذين أساؤوا بما عمِلوا} بعقاب ما عملوا من السوء، أو: بسبب ما عملوا، {ويجزَي الذين أحسنوا بالحسنى} بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والمعنى: أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم والعلوي والسفلي، وتصرّف فيه بقدرته بين جلاله وجماله، ليجزي المحسن من المكلّفين، والمسيء منهم؛ إذ من شأن الملك أن ينصر أولياءه ويُكرمهم، ويقهر أعدائه ويُهينهم. وقال الطيبي: «ليجزي» راجع لقوله: {هو أعلم بمَن ضَلَّ...} الآية، والمعنى: إنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ وبمَن اهتدى ليجزي كل واحد بما يستحقه، يعني: أنه عالم، كامل العلم، قادر، تام القدرة، يعلم أحوال المُكلَّفين فيُجازيهم، لا يمنعه أحدٌ مما يريده؛ لأنَّ كل شيء من السموات والأرض ملكه، وتحت قهره وسلطانه، فقوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض}: جملة معترضة، توكيد للاقتدار وعدم المعارض. ه. {الذين يجتنبون كبائِرَ الإثم}: بدل من الموصول الثاني، أو: رفع على المدح، أي: هم الذين يجتنبون. والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الاجتناب واستمراره. وكبائر الإثم: ما يكبر عقابه من الذنوب، وهو ما رتّب عليه الوعيد بخصوصه. قال ابن عطية: وتحرير القول في الكبائر: إنها كل معصية يُوجد فيها حَدّ في الدنيا، أو توعّد عليها بنار في الآخرة، أو بلَعنةٍ ونحوها. وقرأ الأخوان: (كبير الإثم) على إرادة الجنس، أو الشرك، {و} يجتنبون {الفواحشَ} وهو ما فَحُشَ من الكبائر، كأنه قيل: يجتنبون الكبائر وما فحش منها خصوصاً، فيحتمل أن يريد بالكبائر: ما فيه حق الله وحده، والفواحش منها: ما فيه حق الله وحق عباده، {إِلا اللممَ} أي: إلا ما قَلَّ وصَغُر، فإنه مغفور لمَن يجتنب الكبائر، وقيل: هي النظرة والغمزة والقُبلة، وقيل: الخطرة من الذنب، وقيل: كل ذنب لم يجعل الله فيه حَدّاً ولا عذاباً. والاستثناء منقطع؛ لأنه ليس من الكبائر ولا من الفواحش. {إِنَّ ربك واسِعُ المغفرة} حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، أو: حيث يغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة، وهذا أحسن، {هو أعلم بكم إِذا أنشأكم} في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام {من الأرض} إنشاءً إجمالياً، حسبما مرّ تحقيقه مراراً، {وإِذا أنتم أَجِنةٌ} أي: يعلم وقت كونكم أجنّة {في بُطون أمهاتكم} على أطوار مختلفة، لا يخفى عليه حالٌ مِن أحوالكم، ولا عمل من أعمالكم. {فلا تُزكُّوا أنفسكم} فلا تنسبوها إلى زكاء الأعمال، وزيادة الخير والطاعات، أو: إلى الزكاة والطهارة من المساوئ، ولا تُثنوا عليها، واهضموها، فقد علم اللّهُ الزكيَّ منكم والتقِيّ، قبل أن يُخرجكم من صُلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. وقيل: كان ناس يعملون أعمالاً حسنة، ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجّنا، فنزلت. وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة، والتحدُّث بها، فإنه جائز؛ لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكرها. والأحسن في إيراد الاعتراف والشكر أن يُقدم ذكر نقصه، فيقول مثلاً: كنا جُهالاً فعلَّمنا الله، وكنا ضُلاَّلاً فهدانا الله، وكنا غافلين فأيقظنا الله، وهكذا نحن اليوم كذا وكذا. قال ابن عطية: ويُحتمل أن يكون نهياً عن أن يُزَكِّي بعضُ الناس بعضاً، وإذا كان هذا، فإنما ينهى عن تزكية السَّمع، أو القطع بالتزكية، ومن ذلك الحديث في «عثمان بن مظعون» عند موته، وأما تزكية القدوة أو الإمام، أو أحداً، ليؤتم به أو لِيَتَهَمَّمَ الناس بالخير، فجائز، وقد زكَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وغيره، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة؟ للضرورة إليها، وأصل التزكية: التقوى، والله تعالى أعلم بتقوى الناس منكم. ه. وقال في القوت: هذه الذنوب تدخل على النفوس من معاني صفاتها، وغرائز جبلاتها، وأول إنشائها من نبات الأرض، وتركيب الأطوار في الأرحام، خَلْقٍ مِن بعد خلقٍ، ومن اختلاط الامشاج بعضها مع بعض، ولذلك عقبه بقوله: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم...} الآية. ه. ثم قال تعالى: {هو أعلم بمن اتقى} فاكتفوا بعلمه عن علم الناس، وبجزائه عن ثناء الناس. وبالله التوفيق. الإشارة: ولله ما في سموات الأرواح من أنوار الشهود، وما في أرض النفوس من آداب العبودية، رتَّب ذلك ليجزي الذين أساؤوا بوقوفهم مع أرض النفوس في العالم المحسوس، ويجزي الذين آمنوا بترقيهم إلى مقام الإحسان، بالحسنى، وهي المعرفة، حيث ترقّوا من أرض الأشباح إلى عالم سماء الأرواح،، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم وهو شهود وجودهم مع وجود الحق محبوبهم، ووقوفهم مع عالم الحس، والفواحش، وهو اعتراضهم على الله فيما يبرز من عُنصر قدرته، وتصغيرهم شيئاً مما عظَّم الله، إلا اللمم؛ خواطر تخطر ولا تثبت. قال القشيري: كبائر الإثم ثلاث: محبة النفس الأمّارة، ومحبة الهوى النافخ في نيران النفس، ومحبة الدنيا، التي هي رأس كل خطيئة، ولكل واحدة من هذه الثلاث فاحشة لازمة لها، أما فاحشة محبة النفس: فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة، وأما فاحشة محبة الهوى: فحُب الدنيا وشهواتها، وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله، والإقبال على ما سواه. وقوله {إلا اللمم} أي: الميل اليسير إلى الهوى والنفس والدنيا، بحسب ضرورته البشرية؛ مِن استراحة البدن، ونيل قليل من حظوظ الدنيا، بحسب الحقوق، لا بحسب الحظوظ، فإنَّ مباشر الحقوق مغفور، ومباشر الحظوظ مغرور. ه. {إِنَّ ربك واسعُ المغفرة} يستر العيوب، ويُوصل إلى حضرة الغيوب. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من أرض البشرية، ورقّاكم إلى عالم الروحانية، وإذ أنتم أَجنة في أول بدايتكم في بطون أمهاتكم، في بطون الهوى والغفلة، ودائرة الكون، فأخرجكم منها بمحض فضله، فلا تُزكُّوا أنفسكم، فتنظروا إليها بعين الرضا، أو تنسبوا إليها شيئاً من الكمالات قبل صفائها. قال القشيري: تزيكة المرء نفسه علامة كونه محجوباً؛ لأنَّ المجذوب عن بقائه، المستغرق في شهود ربِّه، لا يُزكِّي نفسه. ه. قلت: هذا ما دام في السير، وأما إن حصل له الوصول؛ فلا نفس له، وإنما يُزكّي ربه إذا زكّاها، هو أعلم بمَن اتقى ما سواه.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} يقول الحق جلّ جلاله: {أفرأيتَ الذي تولَّى} أعرض عن الإيمان {وأعطَى قليلاً وأكْدى} أي: قطع عطيته وأمسك، وأصله: إكداء الحافر، وهو أن تلقاه كُدْية- وهي صلابة، كالصخرة- فيمسك عن الحفر. قال ابن عباس: «هو فيمن كفر بعد الإيمان»، وقيل: في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتّبع رسولّ الله صلى الله عليه وسلم فعيّره بعضُ الكافرين، وقال: تركتَ دين الأشياخ، وزعمتَ أنهم في النار؟ قال: إني خشيتُ عذاب الله، فضمن له إن أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى شركه، أن يتحمّل عنه عذاب الله، ففعل ذلك المغرور، وأعطى الذي عاتبه بعضَ ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه. {أعنده علْمُ الغيبِ فهو يَرى} أي: يعلم هذا المغرور أنَّ له حق؟ {أم لم يُنَبَّأُ} يُخْبَر {بما في صُحف موسى} أي: التوراة، {وإِبراهيمَ} أي: وما في صحف إبراهيم {الذي وفَّى} أي: أكمل وأتمّ ما ابتلي به من الكلمات، أو: ما أُمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد اللّهَ عليه. وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفّى به. وعن عطاء بن السائب: عهد ألاَّ يسأل مخلوقاً، فلما قذف في النار قال له جبريل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. وقال الشيخ المرسي: وفَى بمقتضى قوله: {حسبي الله} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «وَفَّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار» وهي صلاة الضحى. وروي: «ألا أخبركم لم سمّى خليلَه» الذي وفَّى «؛ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: {فسبحان الله حين تُمسون...} إلى {تُظهرون} وقيل: وفَّى سهام الإسلام، وهي ثلاثون، عشرة في التوبة: {التَّآئِبُونَ} [التوبة: 112] الخ، وعشرة في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ...} [الأحزاب: 35] وعشرة في المؤمنين: {قد أفلح المؤمنون}. وقيل: وفي حيث أسلم بدنه للنيران، وولده للقربان، وطعامه للضيفان. ورُوي: أنه كان يوم يضيف ضيفاً، فإن وافقه أكرمه، وإلاَّ نوى الصوم، وتقديم موسى لأنَّ صحفه وهي التوراة أكثر وأشهر. ثم فسّر ما في تلك الصُحف فقال: {ألاَّ تَزِرُ وَازرةٌ وِزْرَ أخرى} أي: أنه لا تحمل نفس وازرة وزر نفس أخرى، بل كل نفس تستقل بحمل وزرها، يقال: وزر يزر إذا اكتسب وِزراً، و» أن «مخففة، وكأنّ قائلاً قال: ما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقال: ألاَّ تحمل نفس مثقلة بوزرها وِزرَ نفس أخرى. {وأن ليس للإِنسان إِلا ما سَعَى} هو أيضاً مما في صحف موسى وإبراهيم، وهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره، إثر بيان عدم انتفاعه من حيث رفع الضرر عنه به، وأما ما صحّ من الأخبار في الصدقة عن الميت والحج عنه، فلأنه لمَّا نواه عنه كان كالوكيل عنه، فهو نائب عنه. قال ابن عطية: الجمهور أنّ قوله: {وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى} مُحْكَمٌ لا نسخ فيه، وهو لفظ عام مخصّص. ه يعني: أن المراد: الكافر، وهكذا استقرئ من لفظ «الإنسان» في القرآن، وأما المؤمن فجاءت نصوص تقتضي انتفاعه بعمل غيره، إذا وهب له من صدقة ودعاء وشفاعة واستغفار، ونحو ذلك، وإلاَّ لم يكن فائدة لمشروعية ذلك، فيتصور التخصيص في لفظ «الإنسان»: وفي السعي، بأن يخص الإنسان بالكافر، أو السعي بالصلاة، ونحو ذلك مما لا يقبل النيابة مثلاً. والحاصل: أن الإيمان سعي يستتبع الانتفاع بسعي الغير، بخلاف من ليس له الإيمان. ه قاله الفاسي: وكان عز الدين يحتج بهذه الآية في عدم وصول ثواب القراءة للميت، فلما مات رؤي في النوم، فقال: وجدنا الأمر خلاف ذلك. قلت: أما في الأجور فيحصل الانتفاع بسعي الغير، إن نواه له، وأما في رفع الستور، وكشف الحجب، والترقي إلى مقام المقربين، فالآية صريحة فيه، لا تخصيص فيها؛ إذ ليس للإنسان من حلاوة المشاهدة والقُرب إلا بقدر ما سعى من المجاهدة. والله تعالى أعلم. ثم قال: {وأنَّ سَعْيَه سوف يُرى} أي: يعرض عليه، ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه، {ثم يُجزاه} أي: يجزى العبد سعيه، يقال: جزاه اللّهُ عملَه، وجزاه عليه، بحذف الجار وإيصال الفعل، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسّره بقوله: {الجزاءَ الأوفى} أو: أبدله منه، أي: الجزاء الأكمل بحيث يزيده ولا ينقصه. الإشارة: أفرأيتَ الذي تولى عن طريق السلوك، بعد أن أعطى نفسه وفلْسَه، وتوجه إلى حضرة مولاه، ثم منَّته نفسُه، وغرّته أنه يصل بلا عطاء ولا مجاهدة، فقطع ذلك واشتغل بنفسه، أو غرّه أحدٌ حتى ردَّه، وضمن له الوصول، بلا ذلك، أعنده عِلمُ الغيب حتى عَلِمَ أنه يصل بلا واسطة ولا مجاهدة؟ فهو يرى عاقبة ما هو سائر إليه. وتصدُقُ الإشارة بمن صَحِبَ شيخاً، وأعطاء بعض ماله أو نفسه، ثم رجع ومال إلى غيره، فلا يأتي منه شيء، أعنده علم الغيب، وأنّ فتحه على يد ذلك الشخصن فهو يرى ما فيه صلاح وفساده؟ وهذا إن كان شيخه أهلاً للتربية، وإلاَّ فلا. أم لم يُنبأ هذا المنقطِع بما في صُحف موسى وإبراهيم، أنه لا يتحمّل أحدٌ عن أحدٍ مجاهدة النفوس ورياضتها؟ وأن ليس للإنسان من لذة الشهود والعيان إلا ما سعى فيه بالمجاهدة، وبذل النفس والفلس، وأنَّ سعيه سوف يُرى؟ أي: يَظهر أثره من الأخلاق الحسنة، والرزانة والطمأنينة، وبهجة المحبين، وسيما العارفين. وقسَّم القشيري السعي على أربعة أقسام: الأول: السعي في تزكية النفس وتطهيرها، ونتيجته: النهوض للعمل الصالح، الذي يستوجب صاحبه نعيمَ الجنان. الثاني: السعي في تصفية القلب من صَداء ظلمات البشرية، وغطاء عورات الطبيعية، ونتيجته: صحته من الأمراض القلبية، كحب الدنيا والرئاسة والحسد، وغير ذلك، ليتهيأ لدخول الواردات الإلهية. الثالث: السعي في تزكية الروح، بمنعها من طلب الحظوظ الروحانية، كطلب الكرامات، والوقوف مع المقامات، وحلاوة المعاملات، لتتهيأ بذلك للاستشراف على مقام المشاهدات، وحمل أعباء أسرار الذات. الرابع: السعي في تزكية السر بتحليته بالصفات الإلهية، والأخلاق الربانية ليتحقق بمقام الفناء والبقاء، وهو منتهى السعي وكماله. ه. بالمعنى.
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} يقول الحق جلّ جلاله في بقية ذكر ما في الصُحف الأُولى: {وأنَّ إِلى ربك المنتهى} أي: الانتهاء، أي: ينتهي إليه الخلق ويرجعون، إليه كقوله: {وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48] أو: ينتهي علم العلماء إليه ثم يقفون، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا فكرة في الرب» أي: كُنه الذات، وسيأتي في الإشارة: {وأنه هو أضحكَ وأبكى} أي: خلق الضحك والبكاء، أو: خلق الفرح والحزن، أو: أضحك المؤمنين في الأخرة، وأبكى الكافرين، أو: أضحك المؤمنين في العُقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب، {وأنه هو أمات وأحيا} أي: أمات الآباء وأحياء الأبناء، أو: أمات بالكفر وأحيا بالإيمان. {وأنه خلق الزوجين الذكرَ والأنثى من نُطفةٍ إذا تُمنَى}: إذ تدفق وتُدفع في الرحم. يقال: منى وأمنى، {وأنَّ عليه النشأةَ الأخرى} الإحياء بعد الموت، {وأنه هو أغنَى} أي: صيّر الفقير غنيّاً {وأَقْنَى} أي: أَعطى القِنْيَة، وهو المال الذي تأثّلته، وعزمت ألاَّ تُخرجه من يدك. {وأنه هو رَبُّ الشِّعْرى} وهو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وكانت خزاعة تعبدها. سنّ لهم ذلك «ابن أبي كبشة» رجل من أشرافهم، قال: لأن النجوم تقطع السماء عرضاً، والشعرى طولاً، ويقال لها: شعرى العبور. انظر الثعلبي. وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أبي كبشة، تشبيهاً له صلى الله عليه وسلم به، لمخالفته إياهم في دينهم، فأخبر تعالى أنه ربّ معبودهم، فهو أحق بالعبادة وحده. {وأنه أهلك عاداً الأُولى} وهم قوم هود، وعاد الأخرى: عاد إرم، وقيل: معنى الأولى العدمي لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح، وقال الطبري وغيره: سميت «أُولى» لأن ثُمَّ عاداً آخرة، وهي قبلية كانت بمكة مع العماليق، وهم بنو لُقَيم بن هَزّال. والله أعلم. ه. {قلت}: والتحقيق: أن عاداً الأولى هي عاد إرم، وهي قبيلة هود التي هلكت بالريح، ثم بقيت منهم بقايا، فكثروا وعمّروا بعدهم، فقيل لهم عاد الأخيرة، وانظر أبا السعود في سورة الفجر. وها هنا قراءات، وجَّهناها في كتاب الدرر. {وثَموداً} أي: وأهلك ثموداً، وهم قوم صالح، {فما أبقَى} أحداً منهم، {وقمَ نوحٍ من قبلُ}؛ وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، {إِنهم كانوا أظلمَ وأطغى} مِن عاد وثمود؛ لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حِراك، وينفرون منه حتى كانوا يُحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه، {والمؤتفكةَ} أي: والقرى التي ائتفكت، أي: انقلبت بأهلها، وهم قوم لوط. يقال: أَفَكه فائتفك، أي: قَلَبَه فانقلب، {والمؤتفكة} منصوب ب {أَهْوَى} أي: رفعها إلى السماء على جناح جبريل، ثم أهواها إلى الأرض، أي: أسقطها، {فَغَشَّاها} ألبسها من فنون العذاب {ما غَشَّى} وفيه تهويل لما صبَّ عليها من العذاب، وأمطر عليها من الصخر المنضود. {فبأي آلاءِ ربك} أيها المخاطب {تتمارَى} أي: تتشكك؟ أي: فبأي نِعَمٍ من نِعَم مولاك تجحد ولا تشكر؟ فكم أولاك من النِعم، ودفع عنك من النِقم، وتسمية الأمور المتعددة قبلُ نِعماً مع أن بعضها نقم؛ لأنها أيضاً نِعَم من حيث إنها نصرة الأنبياء والمرسَلين، وعظة وعبرة للمعتبرين. {هذا نذيرٌ} أي: محمد مُنذِّر {من النُذُرِ الأولى} من المنذِّرين الأولين، وقال: «الأُولى» على تأويل الجماعة، أو: هذا القرآن نذير من النذر الأولى، أي: إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي إنذِر بها من قبلكم. {أَزِفَتِ الآزفةُ} أي: قربت الساعة الموصوفة بالقرب من قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، وفي ذكرها بعد إنذارهم إشعار بأنَّ تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة، {ليس لها من دون الله كاشِفةٌ} أي: ليس لها نَفْس مبيّنة وقت قيامها إلاّ الله تعالى، وهذا كقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] أو: ليس لها نفس قادرة على كشف أهوالها إذا وقعت إلا الله تعالى، فيكشفها عمن شاء، ويُعذِّب بها مَن شاء. ولمَّا استهزؤوا بالقرآن، الناطق بأهوال القيامة، نزل قوله تعالى: {أفمن هذا الحديث تعجبون} إنكاراً، {وتضحكون} استهزاءً، {ولا تبكون} خشوعاً، {وأنتم سامدون} غافلون، أو: لاهون لاعبون، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء، ليشغلوا الناس عن استماعه، {فاسجدوا لله واعبدوا} ولا تعبدوا معه غيره، من اللات والعزى ومناة والشعْرَى، وغيرها من الأصنام، أي: اعبدوا رب الأرباب، وسارعوا له، رجاء في رحمته. والفاء لترتيب الأمر بالسجود على بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء، ووجوب تلقيه بالإيمان والخضوع والخشوع، أي: إذا كان الأمر كذلك فساجدوا لله الذي أنزله واعبدوه. الإشارة: {وأنَّ إلى ربك المنتهى} انتهى سير السائرين إلى الوصول إلى الله، والعكوف في حضرته. ومعنى في حضرته. ومعنى الوصول إلى الله: العلم بأحدية وجوده، فيمتحي وجود العبد في وجود الرب، وتضمحل الكائنات في وجود المكوِّن، فتسقط شفيعة الأثر، وتثبت وترية المؤثِّر، كما قال القائل: وبروْح وراح *** عاد شفعي وترى وقال الآخر: فلم يبق إلا الله لم يبق كائنٌ *** فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثم بائنُ بذا جاء برهان العيانِ، فما أرى *** بِعيْنيَّ إلا عينه إذ أعاينُ إلى غير ذلك مما غَنَّوا به من أذواقهم ووجدانهم. ثم قال تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} أي: قبض وبسط، أو: أنه أضحك أرواحاً بكشف الحجاب، وأبكى نفوساً بذُل الحجاب، أو: أضحك إذا تجلّى بصف الجمال، وأبكى إذا تجلّى بصفة الجلال، وأنه هو أمات قلوباً بالجهل والغفلة، بمقتضى اسمه القهّار، وأحيا قلوباً بالعلم والمعرفة، بمقتضى اسمه الغفّار، أو: أمات نفوساً عن شهواتها الفانية، وأحيا سبب ذلك أرواحاً بكمال المعرفة فاتصفت بالأوصاف الربانية، أو: أمات أرواحاً بغلبة ظلمة النفس واتسيلائها عليها، وأحيا نفوساً باستيلاء الأرواح عليها، وغلبة ونورها، فحييت وانقلبت روحاً. وأنه خلق الزوجين، أي: الصنفين: الذكر والأنثى، الحس والمعنى، الحقيقية والشريعة، القدرة والحكمة، كما تقدم. وقال القشيري: الروح كأنه ذَكَر موصوفة بصفة الفاعلية، والنفْس أنثى موصوفة بصفة القابلية، لتحصل نتيجة القلب، بحصول المطالب الدنيوية والأخروية. ه. مختصراً. وقال بعضهم: والشيطان كالذَكَر، والنفس كالأنثى، يتولّد بينهما المعصية. ه. {وأنَّ عليه النشأة الأخرى} وهو بعث الأرواح من موت الغفلة، وحشرها إلى موقف المراقبة والمحاسبة، ثم إدخالها جنة المعارف، فلا تتشاق إلى جنة الزخارف أبداً، أو: {النشأة الأخرى}: الجذب بعد السلوك، والفناء بعد البقاء، ثم البقاء بعد الفناء، البقاء الأول بوجود النفس، والثاني بالله. وأنه هو أغنى به بوصول العبد إلى مشاهدته، وأفنَى بأن مكَّنه منه فزاد غناه. وطبّل على ماله، {وأنه هو رَبُّ الشِّعرى}، وهو كل ما عُبد من الهوى والدنيا، فكيف يعبد المربوب اللئيم، ويترك الرب الكريم؟! وأنه أهلك عاداً الأولى؛ النفوس المتفرعنة، والأهوية المُغوية، أرسل عليهم ريحَ الهداية القوية، حتى اضمحلت وخضعت لمولاها، وثمودَ الخواطر، فما أبقى منها إلا خواطر الخير، التي تأمر بالخير، وقوم نوح؛ من القواطع الأربعة: النفس، والشيطان، والناس، والدنيا، فطعنهم عن المتوجه من قَبلُ، أي: مِن قبل أن يتوجه إلينا، لِما سبق في علمنا أنهم كانوا هم أظلم وأطغى من بقية العلائق، والنفس المؤتفكة، أي: المنقلبة عن التوجُّه، أهوى بها في أسفل سافلين، باعتبار أهل عليين، فغشَّاها من الدنيا ومن الخواطر والهموم والغموم، ما غشَّى. فإذا سَلِمتَ أيها العبد من هؤلاء القواطع والعلائق، وتوجهتَ إلى مولاك، {فبأي آلاء ربك تتمارى؟} بل الواجب عليك أن تشكر الله آناء الليل والنهار. هذا الذي أخذ بيدك نذيرٌ من النُذُر الأولى، المتقدمين الداعين إلى الله في كل زمان، أزفت الآزفة، أي: قربت ساعة الفتح حين توجهت وانقطعت عنك العلائق، ووجدتَ مَن يُدخلك بحرَ الحقائق، ليس لها من دون الله كاشفة، لا يكشف لك هذه الحقائق إلا الذي منَّ عليك بصحبة مَن يدلك عليه. قال القشيري: أزفت الآزفة: قَرُبَت الحقيقة بالقرب والدنو، وأنت أيها السالك في عينها، وما لك بها شعور، لفنائك في أوصافك النفسانية، ه مختصراً. أفمن هذا الحديث العجيب، والغزل الرقيق الغريب، تعجبون، إنكاراً، وتضحكون استهزاءً؟ قلت: وقد رأيت كثيراً ممن يُنكر الإشارة، ويستهزئ بها، ويتنكّب مطالعتها، وقد قيل: مَن كَرِهَ شيئاً عاداه. ولا تبكون على أنفسكم، حيث حُرمتْ من هذه المواهب، وأنتم سامدون غافلون لاهون، للدنيا طالبون، فاسجدوا لله واعبدوا، وتضرّعوا إليه، حتى يُخرجكم من سجن هواكم ونفوسكم. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} يقول الحق جل جلاله: {اقتربت الساعةُ} قربت القيامة، قال القشيري: ومعنى قربها: أنّ ما بقي من الزمان إلى القيامة قليلٌ بالإضافة إلى ما مضى. ه. قال ابن عطية: وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يُروى من التحديد في عمر الدنيا فضعيف. ه. {وانشقَّ القمرُ} نصفين، وقرئ: و«قد انشقَّ القمر»، أي: اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أنَّ القمر قد انشقًَّ، كما تقول: أقبل الأميرُ، وقد جاء البشير بقدومه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين، فكانت أحداهما فوق الجبل، والأخرى أسفل من الجبل، فقال صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» قال ابن عباس: إنَّ المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فشُق لنا القمر فلقتين، فقال: «إن فعلتُ؛ أتؤمنون؟» فقالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل صلى الله عليه وسلم ربه؛ فانشق فرقتين، نصف على أبي قُبيس، ونصف على قُعَيْقِعان، وقيل: سألوا آية مجملة، فأراهم انشقاق القمر. قال ابن عطية: وعليه الجمهور، يعني عدم التعيين. وفي صحيح مسلم: أنه انشق مرتين وصرح في شرح مرتين وصرح في شرح المواقف بأن انشقاقه متواتر. ه. وقيل: معناه: انشق، أي: ينشق يوم القيامة، وهو ضعيف، ولا يُقال: لو انشقَّ لما خفي على أهل الأقطار، ولو ظهر عندهم لنقل متواتراً؛ لأن الطباع جبلت على نشر العجائب، لأنه يجوز أن يحجبه اللّهُ عنهم بغيم أو غيره، مع أنه كان ليلاً، وجُلّ الناس نائمون، وأيضاً: عادة الله تعالى في معجزاته أنه لا يراها إلاَّ مَن ظهرت لأجله في الغالب. تنبيه: قال القسطلاني في المواهب اللدنية: ما يذكره بعض القصَّاص أن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه، ليس له أصل، كما حكاه الزركشي عن شيخه العِماد ابن كثير. ه. {وإِن يَرَوا} أي: أهل مكة {آيةً} تدل على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم {يُعرضوا} عن الإيمان {ويقولوا سِحْرٌ مستمر} محكم شديدٌ قويّ، من: المِرّة، وهي القوة، أو: دائم مطّرد. رُوي: أنه لما انشق؛ قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة؟ فسلوا السُّفار، فلما قَدِموا سألوهم، فقالوا: إنهم قد رأيته، فقالوا: قد استمر سحره في البلاد، فنزلت. قال البيضاوي: دلّ قوله: {مستمر} على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، ومعجزات سابقة. ه. أو: مستمر، ذاهب ومارٌّ، يزول ولا يبقى، من: مرّ الشيء واستمر: ذهب. {وكذّبوا واتَّبعوا أهواءَهم} الباطلة، وما زيَّن لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره، حتى قالوا: سحرَ القمر، أو: سَحَرَ أعيننا، {وكلُّ أمرٍ} وعدهم الله به {مستقِرٌ} كائن في وقته، أو: كل أمر قُدِّرَ واقع لا محالة يستقر في وقته، أو: كل أمر من الخير والشر يقع بأهله من الثواب والعقاب، وقُرئ «مستقرٍ» بالجر، فيعطف على «الساعة»، أي: اقتربت الساعة وكل أمرٍ مستقر، يعني: أشراطها. {ولقد جاءهم} أي: اهل مكة في القرآن؛ {من الأنباءِ} من أخبار القرون الماضية، وكيف أُهلكوا بالتكذيب {ما فيه مُزْدَجَرٌ} أي: ازدجار عن الكفر والعِناد، يقول: زجرته وازدجرته، أي: منعته، وأصله: ازتجر، افتعل، من الزجر، ولكن التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالاً؛ لأن التاء حرف مهموس، والزاي حرف مجهور. فأبدل من التاء حرف مجهور، وهو الدال؛ ليناسب الميم. {حكمة بالغةٌ} بدل من «ما»، أو: خبر، أي: هو حكمة بالغة؛ ناهية في الرشد والصواب، أو: بالغة من الله إليهم، قال القشيري: والحكمة البالغة: الصحيحة الظاهرة الواضحة لمَن فكّر فيها. ه. قال المحلي: وصفت بالبلاغة؛ لأنها تبلغ من مقصد الوعظ والبيان ما لا يبلغ غيرها ه. {فما تُغنِ النُّذُر} شيئاً، حيث سبق القدر بكفرهم، و«ما» نافية، أو استفهامية منصوبة ب «تُغن»، أي: فأيّ إغناء تُغني النُذر مع سابق القدر؟ والنُذر: جمع نذير، وهم الرسل، أو: المنذَر به، أو: مصدر بمعنى الإنذار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الإغناء، واستمراره حسب تجدُّد مجيء الزواجر واستمرارها. {فتولَّ عنهم} لعلمك بأنّ الإنذار لا يُغني فيهم شيئاً، واذكر {يومَ يدع الداع} وهو إسرافيل عليه السلام {إِلى شيءٍ نُّكُرٍ} أي: منكر فظيع، تُنكره النفوس، لعدم العهد بمثله، وهو هول القيامة. {خُشَّعاً أبصارُهم يخرجون} ف «خُشَعاً»: حال من فاعل «يخرجون»، أي: {يَخرجون من الأجداث} أذلة أبصارهم من شدة الهول؛ لأن ذلة الذليل وعزة العزيز يظهرن في أعينهما، ومَن قرأ: «خاشعاً» فوجهه: أنه أسند إلى ظاهر، فيجب تجريده كالفعل، وأما مَن قرأ بالجمع، فهو على لغة: «أكلوني البراغيث»، {كأنهم جراد منتشِرٌ} في الكثرة والتموُّج والتفرُّق في الأقطار. قال ابن عطية: في الحديث: أن مريم دعت للجراد؛ فقال: اللهم أعِشْها بغير رضاع، وتتابع بينها بغير شباع. ه. ثم وصف خروجهم من القبور، فقال: {مهطِعين إِلى الداعِ} مسرعين مَادِّي أعناقهم إليه، أو ناظرين إليه، {يقول الكافرون} استئناف بياني، وقع جواباً عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال، وأهله بسوء الحال، كأنّ قائلاً قال: فماذا يكون حينئذ؟ فقال: {يقول الكافرون هذا يوم عِسِرٌ} صعب شديد. وفي إسناد هذا القول إلى الكفار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة. والله تعالى أعلم. الإشارة: اقتربت ساعة الفتح لمَن جَدّ في السير، ولازم صحبةَ أهل القرب، قال القشيري: الساعة ساعتان: كبرى، وهي عامة، وصغرى، وهي خاصة بالنسبة إلى السالك إلى الله، برفع الأوصاف البشرية، وقطع العلائق الطبيعية. قال: وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن مات فقد قامت قيامته» راجعة إلى الساعة الصغرى. ه. أي: مَن مات عن رؤية نفسه؛ قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده. وقوله تعالى: {وانشق القمر} أي: قمر الإيمان؛ فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان، لم يبقَ لنوره أثر، ليس الخبر كالعيان، وإن يَرَوا- أي: أهل الغفلة والحجاب- آيةً تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص، يُعرضوا منكرين، ويقولوا: {هذا سحر مستمر...} الآية، وكل أمر قدّره الحق- تعالى في الأزل، من أوقات الفتح أو غيره، مستقر، يستقر ويقع في وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر، فلا ينبغي للمريد أن يستعجل الفتح قبل إبانه، فربما عُوقب بحرمانه، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكري أهل الخصوصية، وما لحق أهلَ الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبُعد ما فيه مزدجر، كما فعل بابن البراء وأمثاله، حكمة من الله بالغة، وسنة ماضية، يقول: «من آذى لي وليّاً فقد آذن بالحرب» فما تُغن النُذر إذا سبق الخذلان، فتولّ أيها السالك عنهم، وعن خوضهم، واشتغل بالله عنهم؛ {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} واذكر الموت وما بعده، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء، وذل الأغبياء، يقولون: هذا يوم عسر على مَن طغى وتجبّر.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} يقول الحق جلّ جلاله: {كذبت قبلهم} أي: قبل أهل مكة {قومُ نوح فكذَّبوا عبدنا} نوحاً عليه السلام. ومعنى تكرار التكذيب: أنهم كذَّبوا تكذيباً عقب تكذيب، كلما خلا منهم قرن مكذِّب، جاء عقبه قرن آخر مكذِّب مثله، وقيل: كذبت قوم نوح الرسل، {فكذَّبوا عبدنا}؛ لأنه من جملتهم. وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة؛ تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله، وزيادة تشينع لمكذِّبيه، {وقالوا مجنون} أي: لم يقتصروا على مجرد التكذيب، بل نسبوه للجنون، {وازْدُجِرْ} أي: زجر عن أداء الرسالة؛ بالشتم، وهدّد بالقتل، أو: هو من جملة قولهم، أي: قالوا: هو مجنون وقد ازدجرته الجن، أي: تخبّطته وذهبت بلُبه. {فدعا ربَّه} حين أيس منهم {أني مغلوب} أي: بأني مغلوب من جهة قومي، بتسليطهم عليّ، فلم يسمعوني، واستحكم اليأس من إجابتهم. قال القشيري: مغلوب بالتسلُّط لا بالحجة، إذ الحجة كانت له. ه. وهذا جار فيمن لم يستجب لك، تقول: غلبني. ثم دعى عليهم بقوله: {فانتصرْ}؛ فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وذلك بعد تحقُّق يأسه منهم وعظم إذايتهم. فقد رُوي أن الواحد منهم كان يلقاه فيضربه حتى يغشى عليه، فيقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. {ففتحنا أبوابَ السماء بما منهمرٍ} منصب بكثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً، قال يمان: حتى طبق بين السماء والأرض، وقيل: كانوا يطلبون المطر سنين، فأُهلكوا بمطلوبهم. وفتح الأبواب كناية عن كثرة الأمطار، وشدة إنصابها، وقيل: كان في السماء يومئذ أبواب حقيقة. {وفجَّرنا الأرض عيوناً} وجلعنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض، ومثله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] في إفادة العموم والشمول، {فالتقى الماءُ} أي: مياه السماء ومياه الأرض، وقرئ: «الماءان»، أي: النوعان من الماء السمائي والأرضي. {على أمر قد قُدِر} أي: قُضي في أم الكتاب، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، أو: قدر أنّ الماءين يكون مقدارهما واحداً من غير تفاوت. قيل: كان ماء السماء بارداً كالثلج، وماء الأرض مثل الحميم، ويقال: إنّ الماء الذي نبع من الأرض نضب، والذي نزل من السماء بَقِيَ حارّاً. {وحملناه على ذات ألواح} أي: أخشاب عريضة، والمراد: السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام موصوفها كالشرح له، وهو من فصيح الكلام ومن بديعه، {ودُسُرٍ} ومسامير، جمع: دسار، وهو المسمار، فِعال مِن: دسره: إذا دفعه؛ لأنه يدسَر به مَنفذه. {تجري بأعيننا} أي بمرأىً منا، أو: بحفظنا، وهو حال من فاعل «تجري»، أي: تجري محفوظة {جزاءً} مفعول له، أي: فعلنا ذلك جزاءً {لمن كان كُفِرَ} وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفوراً؛ لأن النبي نعمة من الله ورحمة، فكان نوح نعمة مكفورة. وقرأ مجاهد بفتح الكاف، أي: عقاباً لمَن كَفَرَ بالله. قيل: ما نجا من الغرق إلاَّ عُوج بن عُنُق، كان الماء إلى حجزته، وسبب نجاته: أنّ نوحاً احتاج إلى خشب الساج للسفية، فلم يمكنه نقلها، فحمل عُوج تلك الخشب إليه من الشام، فشكر الله له ذلك، ونجّاه من الغرق. قال الثعلبي. قلت: وقد تقدّم إبطاله في سورة العقود، وأنه من وضع الزنادقة. ذكره القسطلاني. {ولقد تركناها} أي: السفينة، أو: الفعلة، أي: جعلناها {آيةً} يَعتبر بها مَن يقف على خبرها. وعن قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة، وقيل: على الجُوديَّ، حتى رآها أوائل هذه الأمة. {فهل من مُّدَّكر} من متعظ يتعظ ويعتبر، وأصله: مذتكر، فأبدلت التاء دالاً مهملة، وأدغمت الذال فيها لقرب المخرج، {فكيف كان عذابي ونُذر} ؟ استفهام تعظيم وتعجيب، أي: كان عذابي وإنذاري لهم على هيئة هائلة، لا يُحيط بها الوصف، والنُذر: جمع نذير، معنى الإنذار. {ولقد يسَّرنا القرآنَ للذِكرِ} أي: سهّلناه للادّكار والاتعاظ؛ بأن شحنَّاه بأنواع المواعظ والعِبر، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ما فيه شفاء وكفاية. {فهل من مُّدّكِرٍ} ؟ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه، أي: فهل من متعظ يقبل الاتعاظ، وقيل: ولقد سهّلناه للحفظ، وأعنّا مَن أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليُعان عليه؟ قال القشيري: {ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكر} يسَّر قراءته على ألسنة قوم، وعِلْمَه على قوم، وفهمه على قلوب قوم، وحِفْظه على قلوب قوم، وكلهم أهل القرآن، وكلهم أهل الله وخاصته. ويقال: كاشَفَ الأرواح من قومٍ قبل إدخالها في الأجساد، فهل من مُدكر يذكر العهد الذي جرى لنا معه؟. ه. ويروى: أن كتب أهل الأديان من التوراة في الإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن، وفي القوت: مما خصَّ اللّهُ به هذه الأمة ثلاثة أشياء: حفظ كتابنا هذا، إلا ما ألهم اللّهُ عزيزاً من التوراة بعد أن كان بختنصّر أحرق جميعها، ومنها: تبقية الإسناد فيهم، يأثره خلف عن سلف، متصلاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يستنسخون الصُحف، كلما خلقت صحيفة جُددت، فكان ذلك أثرة العلم فيهم، والثالثة: أن كان مؤمن من هذه الأمة يُسأل عن علم الإيمان، ويُسمع قوله مع حداثة سنه، ولم يكن مما مضى يسمعون العلم إلا مِن الأحبار والقسيسين والرهبان. وزاد رابعة: وهي ثبات الإيمان في قلوبهم، لا يعتوره شك، ولا يختلجه شرك، مع تقليب الجوارح في المعاصي. وقد قال قوم موسى: {اجعل لَّنَآ إلها} [الأعراف: 138] بعد أن رأوا الآيات العظيمة، من انفلاق البحر وغيره. ه. قال أبو السعود: وحمل تيسيره على حفظه لا يساعده المقام. ه. الإشارة: في الآية تسلية لمَن أُوذي من الأولياء، وإجابة الدعاء على الظالم، لهم إن أُذن لهم في ذلك بإلهام أو هاتفٍ، وإلاَّ فالصبر أولى، وجعل القشيري نوحاً إشارة إلى القلب، وقومَه جنود النفس، من الهوى والدنيا وسائر العلائق، فيكون التقدير: كذبت النفسُ وجنودُها القلبَ، فيما يَرِدُ عليه من تجليات الحق، وكشوفات الغيب، وقالوا: إنما هو مجنون فيما يُخبر به، فزجرته، ومنعته من تلك الواردات الإلهية بظلمات شهواتها، فدعا ربه وقال: أني مغلوب في يد النفس وجنودها، فانتصِرْ لي حتى تغيبني عنهم، ففتحنا أبواب سماء الغيب بأمطار الواردات الإلهية القهّارية، لتمحق تلك الظلمات النفسانية، وفجرنا أرض البشرية بعلوم آداب العبودية، فالتقى ماء الواردات، التي هي من حضرة الربوبية، مع ماء علوم العبودية، على أمر قد قُدر أنه ينصر القلب، ويرقيه إلى حضرة القدس، وحملناه على سفينة الجذب والعناية، تجري بحفظنا، جزاء لنعمة القلب التي كفرتْ به النفسُ وجنودُها، ولقد تركنا هذه الفعلة آية يعتبر بها السائرون إلينا، والطالبون لنا، فهل من مدكر؟ فكيف كان عذابي لمَن استولت عليه النفس وجنودها؟ وكيف كان إنذاري من غم الحجاب، وسوء الحساب، ولقد يسَّرنا القرآن للذكر؛ للاتعاظ، فهل من مُدكر، فينهض من غفلته إلى مولاه؟.
|